كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ولا حاجة لكل ما رواه المفسرون من دلائل قوة موسى. كرفع الحجر الذي يغطي البئر وكان لا يرفعه فيما قالوا إلا عشرون أو أربعون أو أكثر أو أقل. فالبئر لم يكن مغطى، إنما كان الرعاء يسقون فنحاهم وسقى للمرأتين، أو سقى لهما مع الرعاء.
ولا حاجة كذلك لما رووه عن دلائل أمانته من قوله للفتاة: امشي خلفي ودليني على الطريق خوف أن يراها. أو أنه قال لها هذا بعد أن مشى خلفها فرفع الهواء ثوبها عن كعبها، فهذا كله تكلف لا داعي له، ودفع لريبة لا وجود لها. وموسى عليه السلام عفيف النظر نظيف الحس، وهي كذلك، والعفة والأمانة لا تحتاجان لكل هذا التكلف عند لقاء رجل وامرأة. فالعفة تتضح في التصرف العادي البسيط بلا تكلف ولا اصطناع!
واستجاب الشيخ لاقتراح ابنته. ولعله أحس من نفس الفتاة ونفس موسى ثقة متبادلة، وميلًا فطريًا سليمًا، صالحًا لبناء أسرة.
والقوة والأمانة حين تجتمعان في رجل لا شك تهفو إليه طبيعة الفتاة السليمة التي لم تفسد ولم تلوث ولم تنحرف عن فطرة الله. فجمع الرجل بين الغايتين وهو يعرض على موسى أن يزوجه إحدى ابنتيه في مقابل أن يخدمه ويرعى ماشيته ثماني سنين. فإن زادها إلى عشر فهو تفضل منه لا يلزم به.
{قال إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج فإن أتممت عشرًا فمن عندك وما أريد أن أشق عليك ستجدني إن شاء الله من الصالحين}.
وهكذا في بساطة وصراحة عرض الرجل إحدى ابنتيه من غير تحديد ولعله كان يشعر كما أسلفنا أنها محددة، وهي التي وقع التجاوب والثقة بين قلبها وقلب الفتى. عرضها في غير تحرج ولا التواء. فهو يعرض نكاحًا لا يخجل منه. يعرض بناء أسرة وإقامة بيت وليس في هذا ما يخجل، ولا ما يدعو إلى التحرج والتردد والإيماء من بعيد، والتصنع والتكلف مما يشاهد في البيئة التي تنحرف عن سواء الفطرة، وتخضع لتقاليد مصطنعة باطلة سخيفة، تمنع الوالد أو ولي الأمر من التقدم لمن يرتضي خلقه ودينه وكفايته لابنته أو أخته أو قريبته؛ وتحتم أن يكون الزوج أو وليه أو وكيله هو الذي يتقدم، أولا يليق أن يجيء العرض من الجانب الذي فيه المرأة! ومن مفارقات مثل هذه البيئة المنحرفة أن الفتيان والفتيات يلتقون ويتحدثون ويختلطون ويتكشفون بعضهم لبعض في غير ما خطبة ولا نية نكاح. فأما حين تعرض الخطبة أو يذكر النكاح، فيهبط الخجل المصطنع، وتقوم الحوائل المتكلفة وتمتنع المصارحة والبساطة والإبانة!
ولقد كان الآباء يعرضون بناتهم على الرجال على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بل كانت النساء تعرض نفسها على النبي صلى الله عليه وسلم أو من يرغب في تزويجهن منهم. كان يتم هذا في صراحة ونظافة وأدب جميل، لا تخدش معه كرامة ولا حياء، عرض عمر رضي الله عنه: ابنته حفصة على أبي بكر فسكت وعلى عثمان فاعتذر، فلما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بهذا طيب خاطره، عسى أن يجعل الله لها نصيبًا فيمن هو خير منهما. ثم تزوجها صلى الله عليه وسلم وعرضت امرأة نفسها على رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعتذر لها. فألقت إليه ولاية أمرها يزوجها ممن يشاء. فزوجها رجلًا لا يملك إلا سورتين من القرآن، علمها إياهما فكان هذا صداقها.
وبمثل هذه البساطة والوضاءة سار المجتمع الإسلامي يبني بيوته ويقيم كيانه. في غير ما تلعثم ولا جمجمة ولا تصنع ولا التواء.
وهكذا صنع الشيخ الكبير صاحب موسى فعرض على موسى ذلك العرض واعدًا إياه ألا يشق عليه ولا يتعبه في العمل؛ راجيًا بمشيئة الله أن يجده موسى من الصالحين في معاملته ووفائه.
وهو أدب جميل في التحدث عن النفس وفي جانب الله. فهو لا يزكي نفسه، ولا يجزم بأنه من الصالحين. ولكن يرجو أن يكون كذلك، ويكل الأمر في هذا لمشيئة الله.
وقبل موسى العرض وأمضى العقد؛ في وضوح كذلك ودقة، وأشهد الله: {قال ذلك بيني وبينك أيما الأجلين قضيت فلا عدوان عليّ والله على ما نقول وكيل}.
إن مواضع العقد وشروط التعاقد لا مجال للغموض فيها، ولا اللعثمة، ولا الحياء. ومن ثم يقر موسى العرض، ويبرم العقد، على ما عرض الشيخ من الشروط. ثم يقرر هذا ويوضحه: {أيما الأجلين قضيت فلا عدوان عليّ}. سواء قضيت ثماني سنوات أو أتممت عشرًا، فلا عدوان في تكاليف العمل، ولا عدوان في تحتيم العشر؛ فالزيادة على الثمانية اختيار.. {والله على ما نقول وكيل}. فهو الشهيد الموكل بالعدل بين المتعاقدين. وكفى بالله وكيلًا.
بين موسى عليه السلام هذا البيان تمشيًا مع استقامة فطرته، ووضوح شخصيته، وتوفية بواجب المتعاقدين في الدقة والوضوح والبيان. وهو ينوي أن يوفي بأفضل الأجلين كما فعل. فقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر أنه: قضى أكثرهما وأطيبهما.
وهكذا اطمأن بموسى عليه السلام المقام في بيت حميه؛ وقد أمن من فرعون وكيده. ولحكمة مقدرة في علم الله كان هذا الذي كان، فلندع الآن هذه الحلقة تمضي في طريقها حتى تنقضي. فقد سكت السياق فيها عند هذا الحد وأسدل الستار.
وتمضي السنوات العشر التي تعاقد عليها موسى عليه السلام لا يذكر عنها شيء في سياق السورة، ثم تعرض الحلقة الثالثة بعد ما قضى موسى الأجل وسار بأهله، عائدًا من مدين إلى مصر، يسلك إليها الطريق الذي سلكه منذ عشر سنوات وحيدًا طريدًا. ولكن جو العودة غير جو الرحلة الأولى، إنه عائد ليتلقى في الطريق ما لم يخطر له على بال. ليناديه ربه ويكلمه، ويكلفه النهوض بالمهمة التي من أجلها وقاه ورعاه، وعلمه ورباه. مهمة الرسالة إلى فرعون وملئه، ليطلق له بني إسرائيل يعبدون ربهم لا يشركون به أحدًا؛ ويرثون الأرض التي وعدهم ليمكن لهم فيها؛ ثم ليكون لفرعون وهامان وجنودهما عدوًا وحزنًا، ولتكون نهايتهم على يديه كما وعد الله حقًا: {فلما قضى موسى الأجل وسار بأهله آنس من جانب الطور نارًا قال لأهله امكثوا إني آنست نارًا لعلي آتيكم منها بخبر أو جذوة من النار لعلكم تصطلون فلما أتاها نودي من شاطئ الوادي الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة أن يا موسى إني أنا الله رب العالمين وأن ألق عصاك فلما رآها تهتز كأنها جان ولى مدبرًا ولم يعقب يا موسى أقبل ولا تخف إنك من الآمنين اسلك يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء واضمم إليك جناحك من الرهب فذانك برهانان من ربك إلى فرعون وملئه إنهم كانوا قومًا فاسقين قال رب إني قتلت منهم نفسًا فأخاف أن يقتلون وأخي هارون هو أفصح مني لسانًا فأرسله معي ردءًا يصدقني إني أخاف أن يكذبون قال سنشد عضدك بأخيك ونجعل لكما سلطانًا فلا يصلون إليكما بآياتنا أنتما ومن اتبعكما الغالبون}.
وقبل أن نستعرض هذين المشهدين في هذه الحلقة نقف قليلًا أمام تدبير الله لموسى عليه السلام في هذه السنوات العشر، وفي هذه الرحلة ذهابًا وجيئة، في هذا الطريق.
لقد نقلت يد القدرة خطى موسى عليه السلام خطوة خطوة. منذ أن كان رضيعًا في المهد حتى هذه الحلقة. ألقت به في اليم ليلتقطه آل فرعون. وألقت عليه المحبة في قلب امرأته لينشأ في كنف عدوه. ودخلت به المدينة على حين غفلة من أهلها ليقتل منهم نفسًا. وأرسلت إليه بالرجل المؤمن من آل فرعون ليحذره وينصحه بالخروج منها. وصاحبته في الطريق الصحراوي من مصر إلى مدين وهو وحيد مطارد على غير زاد ولا استعداد. وجمعته بالشيخ الكبير ليأجره هذه السنوات العشر. ثم ليعود بعدها فيتلقى التكليف.
هذا خط طويل من الرعاية والتوجيه، ومن التلقي والتجريب، قبل النداء وقبل التكليف، تجربة الرعاية والحب والتدليل. وتجربة الاندفاع تحت ضغط الغيظ الحبيس، وتجربة الندم والتحرج والاستغفار. وتجربة الخوف والمطاردة والفزع. وتجربة الغربة والوحدة والجوع. وتجربة الخدمة ورعي الغنم بعد حياة القصور. وما يتخلل هذه التجارب الضخمة من شتى التجارب الصغيرة، والمشاعر المتباينة، والخوالج والخواطر، والإدراك والمعرفة، إلى جانب ما آتاه الله حين بلغ أشده من العلم والحكمة.
إن الرسالة تكليف ضخم شاق متعدد الجوانب والتبعات؛ يحتاج صاحبه إلى زاد ضخم من التجارب والإدراك والمعرفة والتذوق في واقع الحياة العملي، إلى جانب هبة الله اللدنية، ووحيه وتوجيهه للقلب والضمير.
ورسالة موسى بالذات قد تكون أضخم تكليف تلقاه بشر عدا رسالة محمد صلى الله عليه وسلم فهو مرسل إلى فرعون الطاغية المتجبر، أعتى ملوك الأرض في زمانه، وأقدمهم عرشًا، وأثبتهم ملكًا، وأعرقهم حضارة. وأشدهم تعبدًا للخلق واستعلاء في الأرض.
وهو مرسل لاستنقاذ قوم قد شربوا من كؤوس الذل حتى استمرأوا مذاقه، فمردوا عليه واستكانوا دهرًا طويلًا. والذل يفسد الفطرة البشرية حتى تأسن وتتعفن؛ ويذهب بما فيها من الخير والجمال والتطلع ومن الاشمئزاز من العفن والنتن والرجس والدنس. فاستنقاذ قوم كهؤلاء عمل شاق عسير.
وهو مرسل إلى قوم لهم عقيدة قديمة؛ انحرفوا عنها، وفسدت صورتها في قلوبهم. فلا هي قلوب خامة تتقبل العقيدة الجديدة ببراءة وسلامة؛ ولا هي باقية على عقيدتها القديمة.
ومعالجة مثل هذه القلوب شاقة عسيرة. والالتواءات فيها والرواسب والانحرافات تزيد المهمة مشقة وعسرًا.
وهو في اختصار مرسل لإعادة بناء أمة، بل لإنشائها من الأساس. فلأول مرة يصبح بنو إسرائيل شعبًا مستقلًا، له حياة خاصة، تحكمها رسالة. وإنشاء الأمم عمل ضخم شاق عسير.
ولعله لهذا المعنى كانت عناية القرآن الكريم بهذه القصة، فهي نموذج كامل لبناء أمة على أساس دعوة، وما يعترض هذا العمل من عقبات خارجية وداخلية. وما يعتوره من انحرافات وانطباعات وتجارب وعراقيل.
فأما تجربة السنوات العشر فقد جاءت لتفصل بين حياة القصور التي نشأ فيها موسى عليه السلام وحياة الجهد الشاق في الدعوة وتكاليفها العسيرة.
إن لحياة القصور جوًا خاصًا، وتقاليد خاصة، وظلالًا خاصة تلقيها على النفس وتطبعها بها مهما تكن هذه النفس من المعرفة والإدراك والشفافية. والرسالة معاناة لجماهير من الناس فيهم الغني والفقير، والواجد والمحروم، وفيهم النظيف والوسخ، والمهذب والخشن؛ وفيهم الطيب والخبيث والخير والشرير. وفيهم القوي والضعيف، والصابر والجزوع، وفيهم وفيهم، وللفقراء عادات خاصة في أكلهم وشربهم ولبسهم ومشيهم، وطريقة فهمهم للأمور، وطريقة تصورهم للحياة، وطريقة حديثهم وحركتهم، وطريقة تعبيرهم عن مشاعرهم، وهذه العادات تثقل على نفوس المنعمين ومشاعر الذين تربوا في القصور؛ ولا يكادون يطيقون رؤيتها فضلًا على معاناتها وعلاجها، مهما تكن قلوب هؤلاء الفقراء عامرة بالخير مستعدة للصلاح، لأن مظهرهم وطبيعة عاداتهم لا تفسح لهم في قلوب أهل القصور!
وللرسالة تكاليفها من المشقة والتجرد والشظف أحيانًا، وقلوب أهل القصور مهما تكن مستعدة للتضحية بما اعتادته من الخفض والدعة والمتعة لا تصبر طويلًا على الخشونة والحرمان والمشقة عند معاناتها في واقع الحياة.
فشاءت القدرة التي تنقل خطى موسى عليه السلام أن تخفض ما اعتادته نفسه من تلك الحياة؛ وأن تزج به في مجتمع الرعاة، وأن تجعله يستشعر النعمة في أن يكون راعي غنم يجد القوت والمأوى، بعد الخوف والمطاردة والمشقة والجوع. وأن ينزع من حسه روح الاشمئزاز من الفقر والفقراء، وروح التأفف من عاداتهم وأخلاقهم وخشونتهم وسذاجتهم؛ وروح الاستعلاء على جهلهم وفقرهم ورثاثة هيئتهم ومجموعة عاداتهم وتقاليدهم. وأن تلقي به في خضم الحياة كثيرًا بعد ما ألقت به في خضم الأمواج صغيرًا، ليمرن على تكاليف دعوته قبل أن يتلقاها.